2- السوسيولوجيا الكلاسيكية والمسألة الحضرية:
عن مسألة الاهتمام بالظاهرة الحضرية، شأنها شأن باقي الظواهر الاجتماعية الأخرى ، نجدها حاضرة بقوة عند الرواد الأوائل في علم الاجتماع، ويرجع الاهتمام المتزايد بالظاهرة الحضرية إلى التحولات والتغيرات الاجتماعية الكبرى التي تعرضت لها المدينة في الدول الغربية، وما ترتب عنها من انعكاسات كبيرة على البناء العام للمجتمع، مما استرعى الانتباه السوسيولوجي لعلماء الاجتماع الذين حاولوا مقاربة الظاهرة الحضرية ، والملاحظ في مقاربتهم هذه، حظور ثنائية المقارنة بين البادية والمدينة لأن جميع علماء الاجتماع وهم يتحدثون عن المدينة أو الظاهرة الحضرية، ينطلقون صراحة أو ضمنا من مقارنتها مع البادية أو الظاهرة القروية.
أ*- ماركس والماركسية والتحليل المادي التاريخي للظاهرة الحضرية:
في تناولهما لأهم المراحل الكبرى التي مرت بها المجتمعات البشرية في تطورها التاريخي، حاول كل من كارل ماركس وفريدريك انجلز، من خلال تحليلهما المادي التاريخي والمادي الجدلي لتطور أنماط الإنتاج في المراحل الخمس التطرق الى مسألة العلاقة بين المدينة والبادية إدماجهما للبعد الحضري في دراستهما لأهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا في بداية القرن 19.
وقبل ماركس نجد في هذا الإطار مساهمة ف.إنجلز (1820-1895).خاصة في كتابه "حالة الطبقات العاملة في انجلترا" الذي صدر سنة 1845. والذي خصص فيه فصلا للمدينة عنونها ب " المدن الكبرى "، وتحدث فيه عن المشاكل التي صاحبت ارتفاع وتيرة التحضر. كما عمل على تقديم قراءة سوسيولوجية، للوضعية الطبقة العاملة من خلال عرض حالة البؤس والفقر والاستغلال الذي تتعرض له، كما تطرق إلى مسألة النمو الحضري العشوائي الناجم عن الطريقة التي تخفي بها البلدان المتقدمة والمصنعة الوجه الأخر لتقدمها الصناعي... وتطرق فيه كذلك الى أزمة السكن وانتشار الأحياء الهامشية المجاورة للأحياء الراقية، ووجه انتقادا لاذعا للتطور الرأسمالي في بعض المدن الكبرى(لندن)، وأعتبر أن أزمة السكن والاستغلال الذي تتعرض له الفئات المقصية اجتماعيا القاطنة بالأحياء الهامشية"، هو مؤشر أساسي للاحتكار الاستغلال الرأسمالي ... وبذلك فإن أحسن وسيلة للقضاء على هذه الأزمة هي القضاء بشكل نهائي على الاحتكار والاستغلال الذي تمارسه الطبقة الرأسمالية على الطبقة العاملة.
وفي كتابهما المعنون بـ " الايدولوجيا الألمانية" (18475-1846) نجد ماركس وانجلز، يتطرقان للمسألة الحضرية من خلال حديثهما عن ظاهرة تقسيم العمل التي فرقت بين المدينة والبادية" إن تقسيم العمل داخل أمة ما يفترض أولا تقسيم العمل الى عمل صناعي وتجاري من جهة، وعمل فلاحي من جهة أخرى، ومن ثم التفريق بين البادية والمدينة وتعارض مصالحهما".
وفي نفس السياق نجدهما يقولان :" إن أكبر تقسيم للعمل المادي والفكري هو الفصل بين المدينة والبادية. إن التعارض بين المدينة والبادية قد أخذ في الظهور مع الانتقال من التوحش الى الحضارة، من التنظيم القبلي الى الدولة، من الإقليمية الى الأمة. وظل هذا التعارض قائما على امتداد تاريخ الحضارة إلى اليوم. إن وجود المدينة يستدعي في نفس الوقت ضرورة وجود الإدارة والشرطة والضرائب....الخ. أو بكلمة واحدة ضرورة التنظيم الجماعي، ابتداء بالسياسية عموما، وهنا سيظهر لأول مرة تقسيم السكان الى طبقتين كبيرتين. وهو تقسيم يرتكز مباشرة على تقسيم العمل ووسائل الإنتاج".
ومن خلال التتبع التاريخي لظاهرة تقسيم العمل بين البادية والمدينة، بين ماركس وانجلز انه ابتداء من عصر الإقطاع الذي تنامت فيه الفوارق الطبقية بين المدينة والبادية، لأن البنية الإقطاعية المعتمدة على الملكية الواسعة للأرض واستعباد الأقنان تتمركز في البوادي، في حين أن المدن ستشهد تركز الملكية التعاونية التي تعبر عن التنظيم الإقطاعي للحرف. وستدعو حاجة هذا التنظيم الصناعي التجاري لليد العاملة الى العمل على استيعاب واحتواء الأقنان الذين كانوا يفرون بشكل جماعي في اتجاه المدن المزدهرة طيلة القرون الوسطى. إن هؤلاء الأقنان الذين كانوا يذوقون مختلف أصناف العذاب على أيدي أسيادهم في البادية سيفرون الواحد تلو الآخر الى المدن، حيث توجد مجموعة سكانية منتظمة....حتى يتخلصوا إذن من العذاب المسلط عليهم من طرف الإقطاعيين، باعتبار أن المدينةحسب ماركس ليست مجالا للحرية والعمل الفكري فحسب، بل إنها أيضا المجال المفضل والأحسن للعيش والسكن(...) إ المدينة هي نتاج لتركز السكان والأدوات ورأس المال والمتع والحاجات، بينما البادية "تبرز واقعا مضادا هو العزلة والتشتت".
وفي البيان الشيوعي لهما نجد هناك دعوة واضحة للقضاء على التعارض القائم بين البادية والمدينة وإنهاء تبعية البادية للمدينة التي تبقى رهينة بانجاز المهام الملقاة على عاتق البروليتاريا. وحسب انجلز فإن فشل النظام الرأسمالي في حل أزمة السكن راجع بالأساس الى فشله في القضاء على التعارض القائم بين البادية والمدينة.
ورغم الانتقادات التي توجه الى التحليل الماركسي للظاهرة الحضرية، خاصة الانتقادات الموجهة لهنري لوفيفر من خلال اهتمامه بظاهرة التحضر الشامل للمجتمع، من طرف بعض الرواد المعاصرين الماركسيين الذين اهتموا بالظاهرة الحضرية، والذين ينتمون لتيار الماركسية البنيوية، مثل كاستيل، ولوجكين، وكودار، فإن الاتجاه الماركسي مع ذلك سيظل حاضرا في الدراسات الحضرية الحديثة وسيتخذ أبعادا جديدا في تحليله المادي للواقع الحضري الحالي، ليكشف عن الميكانيزمات المتحكمة فيه، والتي غالبا ما تكون مرتبطة بنوعية التنظيم السياسي السائد، أو ميزان القوى الاجتماعي أو علاقات الإنتاج السائدة، والمحددة في أخر المطاف لمسلكيات مختلف الفاعلين الاجتماعيين والمتدخلين العقاريين.
ب- المدينة عند إميل دوركايم كمجتمع للتضامن العضوي:
رغم كون الأب الروحي للسوسيولوجيا لم يخلف لنا تعريفا محددا للمدينة فإنه تطرق للظاهرة الحضرية من خلال اهتمامه هو الأخر بمسألة تقسيم العمل في أطروحته التي تحمل عنوان " في تقسيم العمل الاجتماعي" وفي هذا الكتاب التقى دوركايم دوركايم بالمدينة وذلك من خلال سعيه لتفسير عملية الانتقال من مجتمعات التضامن الآلي الى مجتمعات التضامن العضوي، هذا الانتقال يحث حسب دوركايم بالارتفاع التدريجي في الكثافة المادية ( الديمغرافية) في المجتمع، والتي تهيئ وتنتج بدورها ارتفاع الكثافة الروحية فيه.
وأهم ما يميز البادية عن المدينة عند إميل دوركايم هو سيادة التضامن الآلي المبني على التشابه على كافة المستويات (العقلية والمهنية) على على البادية والمجتمعات التقليدية التي لا تعرف تقسيما للعمل أو تعرف التقسيم البسيط المبني على الجنس، ولا يتمتع فيها بأية شخصية مستقلة لأنه يتماهى ويتشابه مع الآخرين، ويتصرف وفقا للأعراف والعادات السائدة والمتوارثة. إنها مجتمعات تجزيئية أو مجتمعات للتضامن الآلي، أما الثانية أي المدينة، فهي يطغى عليها التضامن العضوي، القائم بين أفرادها المختلفون مع بعضهم البعض، لأن الفرد في المدينة رغم كونه يصبح أكثر حرية على المستوى الشخصي فإن ظاهرة تقسيم العمل الكثيفة فيه تجعله في حاجة الى الآخرين، ومن هنا فان التضامن هنا يتم عن طريق الاختلاف وذلك ما يسميه دوركايم بالتضامن العضوي، مشبها بذلك المجتمع الحضري بأعضاء الكائن الحي التي تختلف وتتباين ولكنها تتكامل وتتضامن.
ويعتبر دوركايم المدينة مجالا لتكدس أعداد كبيرة من الناس في رقعة أرضية صغيرة، مجالا يتميز بالكثافة المادية (الديمغرافية) المرتفعة التي تنعكس على الكثافة الروحية للمدينة، وكما يتميز بغياب التنظيم الاجتماعي التجزيئي (...) لأن المدن تنتج دائما من الحاجة التي تدفع الأفراد الى البقاء دوما في اتصال حميمي مع بعضهم البعض كما تتميز كذلك بسرعة وانتشار المواصلات والاتصال والتجهيزات.
وقد كان لدوركايم تأثيرا كبيرا على علم الاجتماع الحضري فيما بعد، وخاصة موريس هالفاكسن وبعض رواد مدرسة شيكاغو، وخاصة منهم لويس وورث، الذي يعتبر امتدادا للاتجاه الوضعي في الدراسات الحضرية. غير أن نظرة كل من دوركايم وورث تختلف للمدينة. بحيث أنه إذا كان دوركايم يعتبر بأن المدينة والتمدن هو صورة نموذجية للتقدم الإنساني وللحداثة، حيث يتحقق التضامن العضوي المفضي الى مزيد من التقدم والحرية والرخاء... فإن وورث ينظر الى المدينة نظرة تشاؤمية وبئيسة باعتبارها مجالا لانتشار مختلف الأمراض والانحرافات الاجتماعية التي تجد فيها أرضيتها الخصبة.
ج- المدينة عند ماكس فيبر:
لقد دخلت السوسيولوجيا الحضرية مع ماكس فيبر مسارا آخر، انطلاقا من الاهتمام العلمي بالظاهرة الحضرية التي خصها بكتاب شامل أسماه بـ " المدينة" الذي يؤرخ فيه لبداية الاهتمام السوسيولوجي بالظاهرة الحضرية. وقد شكل له ماركس شبحا طالما تحاور معه من أجل تجاوزه من خلال تفنيد التحليل الماركسي الأحادي لظاهرة نشوء المدن وتطورها.
وقد بنى ماكس فيبر تصوره للمدينة انطلاقا من منظور تاريخي مقارن، بدأ فيه من مدن مصر وما قبل الميلاد الى المدينة الرومانية والإسلامية والآسيوية والأوربية القرسطوية والروسية....
والملاحظ عند ماكس فيبر في تناوله لمفهوم المدينة، أنه اعتبر أن النموذج المثالي للمدينة لا وجود له على الإطلاق في التاريخ إلا في أوربا الغربية. لاأن المدينة الأوربية هي قمة ما بلغته العقلنة الحضرية من ترشيد وعقلنة وسلطة وبيروقراطية، وديمقراطية ومجالس سلطوية وقضائية ومالية وقوانين ودساتير...وفي محاولته لتعريف مفهوم المدينة يقول بأنه من وجهة النظر السوسيولوجية لا يوجد تعريف واحد للمدينة. وعندما أراد صياغة تعريف نموذجي للمدينة قال:" يمكننا تعريف المدينة بطرائق متعددة، وكل التعاريف تشترك في نقطة واحدة وهي أن المدينة لا تكمن في سكن واحد أو سكنات متعددة منتشرة بشكل مبعثر، إنها تتشكل على كل حال من السكن المتجمع (ولو نسبيا)، وفي المدن تبنى الدور بالقرب من بعضها البعض، والقاعدة العامة هي أن تبنى حائطا لحائط. إن التصور الشائع في الوقت الحاضر يربط المدينة بخصائص كمية محضة.
وما يميز البادية عن المدينة، هو أن الأولى تعرف انتشار كثافة سكانية مرتفعة في مجال ترابي ضيق، كما أن سكان المدينة لا يعرفون بعضهم البعض معرفة شخصية متبادلة، غير أن حجم السكان وحده لا يعطي صورة دقيقة لمفهوم المدينة حسب فيبر، لذلك وجب الأخذ بعين الاعتبار كذلك دينامية العلاقات الاجتماعية والشروط والأوضاع الثقافية.
ولم يكتف فيبر بهذا التعريف السوسيولوجي النموذجي للمدينة، بل أعطى مجموعة من التصنيفات النظرية والنماذج المثالية الأخرى حول المدينة وذلك انطلاقا من هاجس العقلنة والشرعنة، وبذلك فقد حدد المدينة من خلال الأبعاد التالية:
المدينة ككيان اقتصادي: نظرا لكون الطبيعة الاقتصادية للمدينة تجعل منها تجمعا سكانيا تجاريا وسوقا دائما، لأن وظيفتها الأولى هي بالأساس وظيفة اقتصادية.
المدينة ككيان سياسي: على اعتبار أن الأنشطة الاقتصادية والإدارية في المدينة لا يمكن ضبطها وتسييرها على نحو جيد إلا إذا توفر نمط معين من التنظيم الإداري والقانوني.
المدينة ككيان إداري/ قانوني: نظرا لكون المدينة هي بالأساس كذلك مركزا إداريا وتجمعا لمجوعة من الوظائف والأنشطة والمؤسسات السياسية للحكم المركزي.
وهكذا فرغم أهمية المنظور التاريخ عند فيبر في تناول الظاهرة الحضرية من منظور متعدد الأبعاد، فإنه بتعريفه النموذجي المثالي للمدينة يسقط في النزعة المركزية عندما اعتبر أن مفهوم المدينة لا توجد إلا في أوربا الغربية بالإضافة الى غياب النمط الايكولوجي في تحليله للظاهرة الحضرية كما هو الحال عند رواد مدرسة شيكاغو وغياب تركيزه على ظاهرة تقسيم العمل كما هو الحال عند ماركس ودوركايم، فقط اقتصر اهتمامه على الظاهرة الحضرية من خلا ل اعتبارها مركزا للسلطة والعقلنة والبيروقراطية. لكن رغم كل الانتقادات التي وجهت الى التحليل الفيبري للمدينة حسب جوليان فرويد، يبقى ماكس فيبر ومعه جورج زيمل أحد علماء الاجتماع الذين عرفتهم بداية القرن 20 ، والذين كان لهم الفضل في تدشين نمط جديد من التناول الفكري للظاهرة الحضرية (..) ومهما يكن من أمر فمن الصعب تجاهل مساهمتهما عند الكتابة عن المدينة اليوم.
د- جورج سيمل والمدينة الميتروبول الحديثة:
لقد كان جورج سيمل 1858-1918) واحد من علماء الاجتماع الألمان الذين عايشوا أهم التحولات والتغيرات الاجتماعية التي عرفتها ألمانيا وأوربا بصفة عامة في بداية القرن 20 ، وما ترتب عن التصنيع من ظواهر حضرية جديدة جاءت نتيجة لعملية الانتقال السريع من الحياة القروية البسيطة الى الحياة الحضرية المعقدة في ألمانيا
ومع سيمل انتقلت السوسيولوجيا الحضرية من محاولة تعريف المدينة الى تحليلها، ومن دراسة المدينة الماضية الى دراسة المدينة الحاضرة، الى درجة أصبح يعتبر فيها احد رواد مدرسة شيكاغو، رغم أنه لاعلاقة بهذه المدرسة لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان.
وفي مقال له حول " المترو بول والحياة الذهنية"، حاول سيمل تحليل العلاقة بين الثقافة والمجال داخل الوسط الحضري للمدن الكبرى في ألمانيا "كبرلين"، وفق منهج شكلاني تأثر به بشكل كبير رواد مدرسة شيكاغو، أعتبر أن المدن الكبرى هي ظاهرة جديدة ارتبطت بالتحولات الكبرى التي أوروبا الغربية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي...وإثر الانتقال الديموغرافي والهجرة والتوسع الحضري ...وبالانتقال من الأشكال التقليدية للمجتمع المحلي الى الأشكال الحديثة في المجتمع الحضري المعقد والمركب، توسعت المدن وانتشرت مظاهر الاستلاب والعزلة والعلاقات اللاشخصية وما دامت المدينة عند سيمل هي فضاء للسوق والتبادلات الاقتصادية، فإن العلاقات الإنسانية فيها تشيىء ويصب فيها كل فرد غير مبالي بالآخرين المحيطين به ، نظرا لانتشار الفردانية ...وما دامت المدينة عند سيمل تساهم في إحداث تغيرات ثقافية واجتماعية في حياة الانسان ، فان هدا الأخير يصبح فيها مستلبا ويتميزا بمجموعة من الخصائص الأخرى كالاستقلال الفردي وسيادة العقل الحسابي والتجريدي وغياب العاطفة والعقلنة وتقسيم العمل الأكبر... وبذلك فإن سيمل يلتقي هنا في تحليله للمدينة المتروبول، مع بعض التحليلات السوسيولوجية لمعاصره من علماء الاجتماع، كدوركايم في مفهوم تقسيم العمل والأنومي... ومع فيبر في مفهوم العقلنة، ومع تونيز في مسألة الفرق بين المجتمع المحلي والمجتمع الكلي، ومع ماركس في مفهوم الاستيلاب. وبذلك فإن المتروبول عند سيمل هي مجال كل هذه التناقضات السالفة الذكر،كما أنها هي مجال للاقتصاد النقدي كموضوع مهيمن في المدن الكبرى التي تسلب الفرد من إنسانيته وتجعله غريبا عن مجتمعه، بسبب تراجيديا الثقافة المتروبولية.
3- مدرسة شيكاغو والظاهرة الحضرية:
يعتبر ظهور مدرسة شيكاغو بمثابة ثورة كبرتيكية في تاريخ السوسيولوجيا، نظرا لما أحدثه في سيرورة علم الاجتماع من تغيرات لا على مستوى الموضوع فقط بالاهتمام بظاهرة التحضر والهجرة وغيرها من الظاهر الأخرى، بل كذلك على مستوى البحث السوسيولوجي وتقنياته، ومناهجه، الذي بقي وفيا للبحث السوسيولوجي النظري في أوربا، أما في الولايات المتحدة الأمريكية، مع رواد مدرسة شيكاغو فقد اتجه البحث السوسيولوجي الميداني نحا آخر، ينطلق من الميدان ومن الواقع باعتباره مختبرا غنيا بالمعطيات والوقائع والأحداث والأفعال والظاهرة الاجتماعية، وذلك بابتكار تقنيات وأدوات علمية جديدة ومناهج ونظريات ومقاربات ومفاهيم... كل هؤلاء الابتكارات التي يعود فيها الفضل لرواد مدرسة،جعلت من علم الاجتماع حسب بيرجس وبارك يقولان في كتابهما:" مقدمة لعلم السوسيولوجيا" يبدو أن علم الاجتماع قد أصبح اليوم على الطريق ليصبح بشكل أو بآخر علما تجريبيا".
ومن العوامل الأساسية التي أدت الى ظهور هذه المدرسة المتميزة في تاريخ السوسيولوجيا هو تلك التحولات الكبرى التي عرفتها مدينة شيكاغو في أواخر القرن 19 وبداية القرن20، والتي كان من نتائجها ظهور العديد من الظواهر الاجتماعية( الفقر+ الهجرة+الإجرام+الانحراف+الدعارة+الصراعات الاثنية...) والاختلالات البينونة في المدينة التي أصبحت مسرحا غنيا بالظواهر الاجتماعية المرضية، هذا بالإظافة الى مجموعة من العوامل الأخرى كنشأة السوسيولو جيا في جامعة شيكاغو والدور الذي لعبته حركة الإصلاح الاجتماعي والتحقيقات الاجتماعية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان لبعض العوامل الأخرى الفكرية والفلسفية دور حاسم في نشوء هذه المدرسة ولعل أهمها هو التأثير الذي أحدثته الفلسفة البركماتية في U.S.A خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن 20، والتأثير الذي أحدثه التيار التفاعلي الرمزي في رواد المدرسة.
ويبقى من الصعب التطرق الى كل انتاجات سوسيولوجيا مدرسة شيكاغو وحتى جزء منها نظرا لضخامتها من جهة ولضيق الوقت من جهة أخرى، لذلك سوف نقتصر على بعض أفكار رواد هذه المدرسة حول التحضر والهجرة وبعض الإشكالات الحضرية الأخرى، وذلك بشكل مقتضب.
أ- وليام اسحاق طوماس، وفلوريان زنانيكي ودراستهما "للفلاح البولوني":
لقد تطرق كل من طوماس وزنانيكي في دراستهما هاته المنشورة ما بين 1918- 1920، والتي يعتبرها علماء الاجتماع أول بحث يستحق نعت بحث سوسيولوجي، لوضعية الفلاحين البولونيين في موطنهم الأصلي وثم وضعيتهم بعد هجرتهم الى أمريكا، من أجل التعرف على نمط عيشهم في بولونيا ثم ما طرأ من تغيير على نمط عيشهم وأوضاعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بعد هجرتهم الى أمريكا، ومن خلال اعتمادهما على تقنيات جديدة في البحث السوسيولوجي كحكايا الحياة ودراسة الحالة (المنهج البيوغرافي)، استطاع كل منهما تحليل وفهم كل الإشكالات المرتبطة بهجرة الفلاح البولوني، ولعل أهم مفهوم تم الخلوص اليه في هذه الدراسة هو مفهوم سوء التنظيم الاجتماعي واعادة التنظيم الذي يعني ضعف وتراجع تأثير القواعد الاجتماعية بين أفراد الجماعة، واعتبر أن الهجرة هي ظاهرة ناتجة بالأساس عن سوء التنظيم الاجتماعي والتفكيك الذي يعرفه المجتمع، كما أن الهجرة تصبح مصدرا للتفكيك الاجتماعي بالوسط الحضري، وذلك نتيجة للارتفاع السريع للكثافة السكانية...وقد لاحظ طوماس أن هجرة الفلاحين البولونيين الى أمريكا تتسبب في خلق نوع من سوء التنظيم وحدوث صراعات داخل الأسرة وارتفاع نسبة الجرائم... غير أن هذه الحالة من سوء التنظيم لا تستمر الى ما لا نهاية، فكما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الأنومي Lanomie عند دوركايم، فإن سوء التنظيم هو حالة مؤقتة بحيث سرعان ما تسعى جماعة المهاجرين الى تنظيم نفسها Réorganisation من خلال إنتاج قواعد وقيم جديدة تتلاءم مع واقعها الجديد حتى يستطيع المهاجر الاندماج في المجتمع الأمريكي.
ب- روبرت بارك والمقاربة الايكولوجية للتحضر والهجرة:
يعتبر بارك الأب الروحي لمدرسة شيكاغو بدون منازع، نظرا لضخامة الانتاجات السوسيولوجية التي ألفها حول مجموعة من الظواهر الحضرية كالهجرة والتفكك العائلي والسكان المشردون وعصابات الأحداث الجانحين و الغيتو والانتحار ومناطق السكن الفقيرة والغنية ومناطق الجنوح القوي وفتيات طاكسي، والعائلة الجنزية وتنظيم الدعارة والسود والصراعات الاثنية...كل هذه الظواهر الاجتماعية التي صاحبت التوسع الحضري الذي عرفته مدينة شيكاغو بفعل تعدد الأقليات الاثنية قد تطرق لها بارك بالدراسة والتحليل وفق منظور ايكولوجي ينطلق في تفسيره لها من التفاعل الحاصل بين المجال الحضري بكل ما يزخر به من خصوصيات وأنماط وقيم وبين الإنسان وما يمتلكه من مواقف و تمثلات.
وانطلاقا من الايكولوجيا الإنسانية اعتبر بارك أن دراسة الإنسان ينبغي أن تتم على أساس دراسة التفاعلات بينه وبين الوسط الطبيعي والجغرافي الذي ينتمي اليه، معتبرا بذلك المدينة من هذا المنظور الايكولوجي مجالا غنيا بالتفاعلات والديناميات الاجتماعية. أو بلغة بارك نفسها أن المدينة هي مختبر اجتماعي لتحليل وفهم كل الظواهر الحضرية.
وفي إطار حديث بارك على ظاهرة الهجرة الإنسانية والتحضر، اعتبر أن هجرة الفلاح الى المدينة هي ظاهرة تاريخية وعملية دائمة لا يمكنها أن تتوقف، ولكنها تتحول مشكلة اجتماعية عندما يتم السعي الى حلها عن طريق الإدماج الحضري أو ما يسميه بارك بعمليه الانصهار، لأن الثقافة التي يحملها المهاجر القروي التي يتميز بهيمنة الأعراف والتقاليد الجامدة عليها، تختلف عن الثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والرأي العام والقانون الوضعي.
وهكذا يمكن القول بأن أهم ما ميز بارك في دراسته لكل الظاهر الاجتماعية الحضرية هو هيمنة البعد الايكولوجي عليه في تناوله لهذه الظواهر معتبرا المدينة مجالا خصبا ومختبر ا اجتماعيا لدراستها، وقد قال بارك مخاطبا طلابه " ارجعوا كل علاقة اجتماعية الى علاقة مجالية وعندئذ يمكنكم أن تطبقوا على العلاقات بين الناس المنطق الأساسي للعلوم الفيزيائية.
باالإظافة إلى توماس وزنانيكي وبارك نجد هناك مجموعة من علماء الاجتماع الذين اهتموا بالظاهرة الحضرية، بشكل عميق كبرجيس الذي اهتم بدراسة النم الحضري وأثره على الحياة الاجتماعية ، ولويس وورت الذي حاول صياغة مقاربة ثقافية لظاهرة التحضر من خلال تعريفه السوسيولوجي الشامل للتحضر باعتباره نمط في العيش وتوسع في المجال الحضري، ونجد كذلك روبرت ردفيد الذي قارب الظاهرة الحضرية من منظور أنتروبولوجي منتهيا الى صياغة نظرية المتصل الريفي الحضري"continuim rural- urbain " التي حاول من خلالها البرهنة على أنه من الصعب في زمننا الحاضر الحديث عن وجود مجتمع حضري خالص ومجتمع قروي خالص.
الى هنا يمكن القول، أن مدرسة شيكاغو تبقى محطة لامعة في تاريخ السوسيولوجية، نظرا للنقلة النوعية التي أحدثتها في الأسس الابستيمولوجية والميتودولوجية لعلم الاجتماع، ونظرا لاهتماماتها المكثفة للظاهرة الحضرية وفق منظور متعدد الأبعاد ينطلق من العلاقة التفاعلية بين المجال الحضري والثقافة في اطار مقاربة ايكولوجية إنسانية.
ورغم كل هذا فان مدرسة شيكاغو لم تسلم من الانتقادات التي وجهت لها، وقد ركزت هذه الانتقادات على ثلاث نقط أساسية: بداية من النموذج الايكولوجي الذي اعتبر بعيدا عن مقاربة الظاهرة الحضرية والسلوك الاجتماعي للفرد، ثم انتقادات أخرى ركزت على الجانب المنهجي ، من خلال اعتبار التقنيات الامبريقية التي استعملها رواد المدرسة ، ناقصة وبالتالي لايمكن أن تؤدي الى التوصل الى نتائج علمية دقيقة. بقدر ما تؤدي الى استنتاجات وتعميمات امبريقية متناقضة وعقيمة. والنوع الثالث من الانتقادات نجده يركز على مسألة العلاقة بين الثقافة والمجال إلي تعتبر مسألة إيديولوجية ... كل هذه الانتقادات نجدها بالأساس موجهة إلى وورت من طرف امانويل كاستيلزالذي خصص فصل من كتابه " المسألة الحضرية " أسماه "أسطورة الثقافة الحضرية "، لتفنيد مفهوم "الثقافة الحضرية " و مفهوم التحضر عند وورت، انطلاقا من نتائج أبحاث ميدانية تفند كلها – حسب كاستيلز- العديد من نتائج واستنتاجات ومفاهيم وورث وغيره من رواد مدرسة شيكاغو.
3- إشكالية التحضر في العالم الثالث:
إن إشكالية التحضر في دول العالم الثالث، وما يرتبط بها من إشكالات اقتصادية واجتماعية وثقافية وادراية وسياسية ومجالية... أضحت من بين الإشكالات الكبرى التي تواجه تطبيق الخطط والاستراتيجيات التنموية في هذه الدول.
غير أن خصوصية التحضر بهذه الدول، تجعل من مسألة التنمية الحضرية بل التنمية في معناها العام أمر صعب التحقق نظرا لجسامة الإشكالات التي أضحت تعاني منها المدينة كفضاء وإطار ترابي ومجالي وببنية مورفولوجية مركبة تجمع بين أكبر من خاصية من خصائص التحضر، بحيث لم تتضح بعد وبشكل جلي مميزات وخصائص التحضر والحضرية في مدن دول التبعية، التي تتشكل من فسيفساء من الأنماط الاجتماعية والاقتصادية تجعلك من الصعب عليك التمييز بين ما هو ريفي- قروي وبين ماهو حضري- مديني.
وهذا التداخل راجع بالأساس المدينة أو ظاهرة التحضر في هذه الدول لم تنمو بشكل طبيعي وفق سيرورة تاريخية تخول لها التطور والتقدم بشكل طبيعي، إذ غالبا ما ارتبط تشكلها الحديث بالتوسع الإمبريالي الذي تعرضت له خلال نهاية القرن 19 وبداية القر20، وبتزايد النمو الديمغرافي وارتفاع حركات الهجرة القروية بفعل الكوارث الاقتصادية، والطبيعية التي كانت تتعرض لها البادية وتفكك بنياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أكثر مما ارتبط بتراكمات وسيرورة تقدمية طبيعية عكس الدول الغربية التي كانت فيها الظاهرة الحضرية استجابة للتحولات والتغيرات الاجتماعية والثورات الصناعية والثقافية التي عرفتها أوربا في مسيرتها التاريخية الحديثة. " إن التحضر في الدول الصناعية كانت نتيجة حتمية لعملية تاريخية ذاتية كاستجابة للثورة الصناعية وما صحبها من تحولات عميقة في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. في حين أن التحضر في البلدان المتخل
عن مسألة الاهتمام بالظاهرة الحضرية، شأنها شأن باقي الظواهر الاجتماعية الأخرى ، نجدها حاضرة بقوة عند الرواد الأوائل في علم الاجتماع، ويرجع الاهتمام المتزايد بالظاهرة الحضرية إلى التحولات والتغيرات الاجتماعية الكبرى التي تعرضت لها المدينة في الدول الغربية، وما ترتب عنها من انعكاسات كبيرة على البناء العام للمجتمع، مما استرعى الانتباه السوسيولوجي لعلماء الاجتماع الذين حاولوا مقاربة الظاهرة الحضرية ، والملاحظ في مقاربتهم هذه، حظور ثنائية المقارنة بين البادية والمدينة لأن جميع علماء الاجتماع وهم يتحدثون عن المدينة أو الظاهرة الحضرية، ينطلقون صراحة أو ضمنا من مقارنتها مع البادية أو الظاهرة القروية.
أ*- ماركس والماركسية والتحليل المادي التاريخي للظاهرة الحضرية:
في تناولهما لأهم المراحل الكبرى التي مرت بها المجتمعات البشرية في تطورها التاريخي، حاول كل من كارل ماركس وفريدريك انجلز، من خلال تحليلهما المادي التاريخي والمادي الجدلي لتطور أنماط الإنتاج في المراحل الخمس التطرق الى مسألة العلاقة بين المدينة والبادية إدماجهما للبعد الحضري في دراستهما لأهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا في بداية القرن 19.
وقبل ماركس نجد في هذا الإطار مساهمة ف.إنجلز (1820-1895).خاصة في كتابه "حالة الطبقات العاملة في انجلترا" الذي صدر سنة 1845. والذي خصص فيه فصلا للمدينة عنونها ب " المدن الكبرى "، وتحدث فيه عن المشاكل التي صاحبت ارتفاع وتيرة التحضر. كما عمل على تقديم قراءة سوسيولوجية، للوضعية الطبقة العاملة من خلال عرض حالة البؤس والفقر والاستغلال الذي تتعرض له، كما تطرق إلى مسألة النمو الحضري العشوائي الناجم عن الطريقة التي تخفي بها البلدان المتقدمة والمصنعة الوجه الأخر لتقدمها الصناعي... وتطرق فيه كذلك الى أزمة السكن وانتشار الأحياء الهامشية المجاورة للأحياء الراقية، ووجه انتقادا لاذعا للتطور الرأسمالي في بعض المدن الكبرى(لندن)، وأعتبر أن أزمة السكن والاستغلال الذي تتعرض له الفئات المقصية اجتماعيا القاطنة بالأحياء الهامشية"، هو مؤشر أساسي للاحتكار الاستغلال الرأسمالي ... وبذلك فإن أحسن وسيلة للقضاء على هذه الأزمة هي القضاء بشكل نهائي على الاحتكار والاستغلال الذي تمارسه الطبقة الرأسمالية على الطبقة العاملة.
وفي كتابهما المعنون بـ " الايدولوجيا الألمانية" (18475-1846) نجد ماركس وانجلز، يتطرقان للمسألة الحضرية من خلال حديثهما عن ظاهرة تقسيم العمل التي فرقت بين المدينة والبادية" إن تقسيم العمل داخل أمة ما يفترض أولا تقسيم العمل الى عمل صناعي وتجاري من جهة، وعمل فلاحي من جهة أخرى، ومن ثم التفريق بين البادية والمدينة وتعارض مصالحهما".
وفي نفس السياق نجدهما يقولان :" إن أكبر تقسيم للعمل المادي والفكري هو الفصل بين المدينة والبادية. إن التعارض بين المدينة والبادية قد أخذ في الظهور مع الانتقال من التوحش الى الحضارة، من التنظيم القبلي الى الدولة، من الإقليمية الى الأمة. وظل هذا التعارض قائما على امتداد تاريخ الحضارة إلى اليوم. إن وجود المدينة يستدعي في نفس الوقت ضرورة وجود الإدارة والشرطة والضرائب....الخ. أو بكلمة واحدة ضرورة التنظيم الجماعي، ابتداء بالسياسية عموما، وهنا سيظهر لأول مرة تقسيم السكان الى طبقتين كبيرتين. وهو تقسيم يرتكز مباشرة على تقسيم العمل ووسائل الإنتاج".
ومن خلال التتبع التاريخي لظاهرة تقسيم العمل بين البادية والمدينة، بين ماركس وانجلز انه ابتداء من عصر الإقطاع الذي تنامت فيه الفوارق الطبقية بين المدينة والبادية، لأن البنية الإقطاعية المعتمدة على الملكية الواسعة للأرض واستعباد الأقنان تتمركز في البوادي، في حين أن المدن ستشهد تركز الملكية التعاونية التي تعبر عن التنظيم الإقطاعي للحرف. وستدعو حاجة هذا التنظيم الصناعي التجاري لليد العاملة الى العمل على استيعاب واحتواء الأقنان الذين كانوا يفرون بشكل جماعي في اتجاه المدن المزدهرة طيلة القرون الوسطى. إن هؤلاء الأقنان الذين كانوا يذوقون مختلف أصناف العذاب على أيدي أسيادهم في البادية سيفرون الواحد تلو الآخر الى المدن، حيث توجد مجموعة سكانية منتظمة....حتى يتخلصوا إذن من العذاب المسلط عليهم من طرف الإقطاعيين، باعتبار أن المدينةحسب ماركس ليست مجالا للحرية والعمل الفكري فحسب، بل إنها أيضا المجال المفضل والأحسن للعيش والسكن(...) إ المدينة هي نتاج لتركز السكان والأدوات ورأس المال والمتع والحاجات، بينما البادية "تبرز واقعا مضادا هو العزلة والتشتت".
وفي البيان الشيوعي لهما نجد هناك دعوة واضحة للقضاء على التعارض القائم بين البادية والمدينة وإنهاء تبعية البادية للمدينة التي تبقى رهينة بانجاز المهام الملقاة على عاتق البروليتاريا. وحسب انجلز فإن فشل النظام الرأسمالي في حل أزمة السكن راجع بالأساس الى فشله في القضاء على التعارض القائم بين البادية والمدينة.
ورغم الانتقادات التي توجه الى التحليل الماركسي للظاهرة الحضرية، خاصة الانتقادات الموجهة لهنري لوفيفر من خلال اهتمامه بظاهرة التحضر الشامل للمجتمع، من طرف بعض الرواد المعاصرين الماركسيين الذين اهتموا بالظاهرة الحضرية، والذين ينتمون لتيار الماركسية البنيوية، مثل كاستيل، ولوجكين، وكودار، فإن الاتجاه الماركسي مع ذلك سيظل حاضرا في الدراسات الحضرية الحديثة وسيتخذ أبعادا جديدا في تحليله المادي للواقع الحضري الحالي، ليكشف عن الميكانيزمات المتحكمة فيه، والتي غالبا ما تكون مرتبطة بنوعية التنظيم السياسي السائد، أو ميزان القوى الاجتماعي أو علاقات الإنتاج السائدة، والمحددة في أخر المطاف لمسلكيات مختلف الفاعلين الاجتماعيين والمتدخلين العقاريين.
ب- المدينة عند إميل دوركايم كمجتمع للتضامن العضوي:
رغم كون الأب الروحي للسوسيولوجيا لم يخلف لنا تعريفا محددا للمدينة فإنه تطرق للظاهرة الحضرية من خلال اهتمامه هو الأخر بمسألة تقسيم العمل في أطروحته التي تحمل عنوان " في تقسيم العمل الاجتماعي" وفي هذا الكتاب التقى دوركايم دوركايم بالمدينة وذلك من خلال سعيه لتفسير عملية الانتقال من مجتمعات التضامن الآلي الى مجتمعات التضامن العضوي، هذا الانتقال يحث حسب دوركايم بالارتفاع التدريجي في الكثافة المادية ( الديمغرافية) في المجتمع، والتي تهيئ وتنتج بدورها ارتفاع الكثافة الروحية فيه.
وأهم ما يميز البادية عن المدينة عند إميل دوركايم هو سيادة التضامن الآلي المبني على التشابه على كافة المستويات (العقلية والمهنية) على على البادية والمجتمعات التقليدية التي لا تعرف تقسيما للعمل أو تعرف التقسيم البسيط المبني على الجنس، ولا يتمتع فيها بأية شخصية مستقلة لأنه يتماهى ويتشابه مع الآخرين، ويتصرف وفقا للأعراف والعادات السائدة والمتوارثة. إنها مجتمعات تجزيئية أو مجتمعات للتضامن الآلي، أما الثانية أي المدينة، فهي يطغى عليها التضامن العضوي، القائم بين أفرادها المختلفون مع بعضهم البعض، لأن الفرد في المدينة رغم كونه يصبح أكثر حرية على المستوى الشخصي فإن ظاهرة تقسيم العمل الكثيفة فيه تجعله في حاجة الى الآخرين، ومن هنا فان التضامن هنا يتم عن طريق الاختلاف وذلك ما يسميه دوركايم بالتضامن العضوي، مشبها بذلك المجتمع الحضري بأعضاء الكائن الحي التي تختلف وتتباين ولكنها تتكامل وتتضامن.
ويعتبر دوركايم المدينة مجالا لتكدس أعداد كبيرة من الناس في رقعة أرضية صغيرة، مجالا يتميز بالكثافة المادية (الديمغرافية) المرتفعة التي تنعكس على الكثافة الروحية للمدينة، وكما يتميز بغياب التنظيم الاجتماعي التجزيئي (...) لأن المدن تنتج دائما من الحاجة التي تدفع الأفراد الى البقاء دوما في اتصال حميمي مع بعضهم البعض كما تتميز كذلك بسرعة وانتشار المواصلات والاتصال والتجهيزات.
وقد كان لدوركايم تأثيرا كبيرا على علم الاجتماع الحضري فيما بعد، وخاصة موريس هالفاكسن وبعض رواد مدرسة شيكاغو، وخاصة منهم لويس وورث، الذي يعتبر امتدادا للاتجاه الوضعي في الدراسات الحضرية. غير أن نظرة كل من دوركايم وورث تختلف للمدينة. بحيث أنه إذا كان دوركايم يعتبر بأن المدينة والتمدن هو صورة نموذجية للتقدم الإنساني وللحداثة، حيث يتحقق التضامن العضوي المفضي الى مزيد من التقدم والحرية والرخاء... فإن وورث ينظر الى المدينة نظرة تشاؤمية وبئيسة باعتبارها مجالا لانتشار مختلف الأمراض والانحرافات الاجتماعية التي تجد فيها أرضيتها الخصبة.
ج- المدينة عند ماكس فيبر:
لقد دخلت السوسيولوجيا الحضرية مع ماكس فيبر مسارا آخر، انطلاقا من الاهتمام العلمي بالظاهرة الحضرية التي خصها بكتاب شامل أسماه بـ " المدينة" الذي يؤرخ فيه لبداية الاهتمام السوسيولوجي بالظاهرة الحضرية. وقد شكل له ماركس شبحا طالما تحاور معه من أجل تجاوزه من خلال تفنيد التحليل الماركسي الأحادي لظاهرة نشوء المدن وتطورها.
وقد بنى ماكس فيبر تصوره للمدينة انطلاقا من منظور تاريخي مقارن، بدأ فيه من مدن مصر وما قبل الميلاد الى المدينة الرومانية والإسلامية والآسيوية والأوربية القرسطوية والروسية....
والملاحظ عند ماكس فيبر في تناوله لمفهوم المدينة، أنه اعتبر أن النموذج المثالي للمدينة لا وجود له على الإطلاق في التاريخ إلا في أوربا الغربية. لاأن المدينة الأوربية هي قمة ما بلغته العقلنة الحضرية من ترشيد وعقلنة وسلطة وبيروقراطية، وديمقراطية ومجالس سلطوية وقضائية ومالية وقوانين ودساتير...وفي محاولته لتعريف مفهوم المدينة يقول بأنه من وجهة النظر السوسيولوجية لا يوجد تعريف واحد للمدينة. وعندما أراد صياغة تعريف نموذجي للمدينة قال:" يمكننا تعريف المدينة بطرائق متعددة، وكل التعاريف تشترك في نقطة واحدة وهي أن المدينة لا تكمن في سكن واحد أو سكنات متعددة منتشرة بشكل مبعثر، إنها تتشكل على كل حال من السكن المتجمع (ولو نسبيا)، وفي المدن تبنى الدور بالقرب من بعضها البعض، والقاعدة العامة هي أن تبنى حائطا لحائط. إن التصور الشائع في الوقت الحاضر يربط المدينة بخصائص كمية محضة.
وما يميز البادية عن المدينة، هو أن الأولى تعرف انتشار كثافة سكانية مرتفعة في مجال ترابي ضيق، كما أن سكان المدينة لا يعرفون بعضهم البعض معرفة شخصية متبادلة، غير أن حجم السكان وحده لا يعطي صورة دقيقة لمفهوم المدينة حسب فيبر، لذلك وجب الأخذ بعين الاعتبار كذلك دينامية العلاقات الاجتماعية والشروط والأوضاع الثقافية.
ولم يكتف فيبر بهذا التعريف السوسيولوجي النموذجي للمدينة، بل أعطى مجموعة من التصنيفات النظرية والنماذج المثالية الأخرى حول المدينة وذلك انطلاقا من هاجس العقلنة والشرعنة، وبذلك فقد حدد المدينة من خلال الأبعاد التالية:
المدينة ككيان اقتصادي: نظرا لكون الطبيعة الاقتصادية للمدينة تجعل منها تجمعا سكانيا تجاريا وسوقا دائما، لأن وظيفتها الأولى هي بالأساس وظيفة اقتصادية.
المدينة ككيان سياسي: على اعتبار أن الأنشطة الاقتصادية والإدارية في المدينة لا يمكن ضبطها وتسييرها على نحو جيد إلا إذا توفر نمط معين من التنظيم الإداري والقانوني.
المدينة ككيان إداري/ قانوني: نظرا لكون المدينة هي بالأساس كذلك مركزا إداريا وتجمعا لمجوعة من الوظائف والأنشطة والمؤسسات السياسية للحكم المركزي.
وهكذا فرغم أهمية المنظور التاريخ عند فيبر في تناول الظاهرة الحضرية من منظور متعدد الأبعاد، فإنه بتعريفه النموذجي المثالي للمدينة يسقط في النزعة المركزية عندما اعتبر أن مفهوم المدينة لا توجد إلا في أوربا الغربية بالإضافة الى غياب النمط الايكولوجي في تحليله للظاهرة الحضرية كما هو الحال عند رواد مدرسة شيكاغو وغياب تركيزه على ظاهرة تقسيم العمل كما هو الحال عند ماركس ودوركايم، فقط اقتصر اهتمامه على الظاهرة الحضرية من خلا ل اعتبارها مركزا للسلطة والعقلنة والبيروقراطية. لكن رغم كل الانتقادات التي وجهت الى التحليل الفيبري للمدينة حسب جوليان فرويد، يبقى ماكس فيبر ومعه جورج زيمل أحد علماء الاجتماع الذين عرفتهم بداية القرن 20 ، والذين كان لهم الفضل في تدشين نمط جديد من التناول الفكري للظاهرة الحضرية (..) ومهما يكن من أمر فمن الصعب تجاهل مساهمتهما عند الكتابة عن المدينة اليوم.
د- جورج سيمل والمدينة الميتروبول الحديثة:
لقد كان جورج سيمل 1858-1918) واحد من علماء الاجتماع الألمان الذين عايشوا أهم التحولات والتغيرات الاجتماعية التي عرفتها ألمانيا وأوربا بصفة عامة في بداية القرن 20 ، وما ترتب عن التصنيع من ظواهر حضرية جديدة جاءت نتيجة لعملية الانتقال السريع من الحياة القروية البسيطة الى الحياة الحضرية المعقدة في ألمانيا
ومع سيمل انتقلت السوسيولوجيا الحضرية من محاولة تعريف المدينة الى تحليلها، ومن دراسة المدينة الماضية الى دراسة المدينة الحاضرة، الى درجة أصبح يعتبر فيها احد رواد مدرسة شيكاغو، رغم أنه لاعلاقة بهذه المدرسة لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان.
وفي مقال له حول " المترو بول والحياة الذهنية"، حاول سيمل تحليل العلاقة بين الثقافة والمجال داخل الوسط الحضري للمدن الكبرى في ألمانيا "كبرلين"، وفق منهج شكلاني تأثر به بشكل كبير رواد مدرسة شيكاغو، أعتبر أن المدن الكبرى هي ظاهرة جديدة ارتبطت بالتحولات الكبرى التي أوروبا الغربية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي...وإثر الانتقال الديموغرافي والهجرة والتوسع الحضري ...وبالانتقال من الأشكال التقليدية للمجتمع المحلي الى الأشكال الحديثة في المجتمع الحضري المعقد والمركب، توسعت المدن وانتشرت مظاهر الاستلاب والعزلة والعلاقات اللاشخصية وما دامت المدينة عند سيمل هي فضاء للسوق والتبادلات الاقتصادية، فإن العلاقات الإنسانية فيها تشيىء ويصب فيها كل فرد غير مبالي بالآخرين المحيطين به ، نظرا لانتشار الفردانية ...وما دامت المدينة عند سيمل تساهم في إحداث تغيرات ثقافية واجتماعية في حياة الانسان ، فان هدا الأخير يصبح فيها مستلبا ويتميزا بمجموعة من الخصائص الأخرى كالاستقلال الفردي وسيادة العقل الحسابي والتجريدي وغياب العاطفة والعقلنة وتقسيم العمل الأكبر... وبذلك فإن سيمل يلتقي هنا في تحليله للمدينة المتروبول، مع بعض التحليلات السوسيولوجية لمعاصره من علماء الاجتماع، كدوركايم في مفهوم تقسيم العمل والأنومي... ومع فيبر في مفهوم العقلنة، ومع تونيز في مسألة الفرق بين المجتمع المحلي والمجتمع الكلي، ومع ماركس في مفهوم الاستيلاب. وبذلك فإن المتروبول عند سيمل هي مجال كل هذه التناقضات السالفة الذكر،كما أنها هي مجال للاقتصاد النقدي كموضوع مهيمن في المدن الكبرى التي تسلب الفرد من إنسانيته وتجعله غريبا عن مجتمعه، بسبب تراجيديا الثقافة المتروبولية.
3- مدرسة شيكاغو والظاهرة الحضرية:
يعتبر ظهور مدرسة شيكاغو بمثابة ثورة كبرتيكية في تاريخ السوسيولوجيا، نظرا لما أحدثه في سيرورة علم الاجتماع من تغيرات لا على مستوى الموضوع فقط بالاهتمام بظاهرة التحضر والهجرة وغيرها من الظاهر الأخرى، بل كذلك على مستوى البحث السوسيولوجي وتقنياته، ومناهجه، الذي بقي وفيا للبحث السوسيولوجي النظري في أوربا، أما في الولايات المتحدة الأمريكية، مع رواد مدرسة شيكاغو فقد اتجه البحث السوسيولوجي الميداني نحا آخر، ينطلق من الميدان ومن الواقع باعتباره مختبرا غنيا بالمعطيات والوقائع والأحداث والأفعال والظاهرة الاجتماعية، وذلك بابتكار تقنيات وأدوات علمية جديدة ومناهج ونظريات ومقاربات ومفاهيم... كل هؤلاء الابتكارات التي يعود فيها الفضل لرواد مدرسة،جعلت من علم الاجتماع حسب بيرجس وبارك يقولان في كتابهما:" مقدمة لعلم السوسيولوجيا" يبدو أن علم الاجتماع قد أصبح اليوم على الطريق ليصبح بشكل أو بآخر علما تجريبيا".
ومن العوامل الأساسية التي أدت الى ظهور هذه المدرسة المتميزة في تاريخ السوسيولوجيا هو تلك التحولات الكبرى التي عرفتها مدينة شيكاغو في أواخر القرن 19 وبداية القرن20، والتي كان من نتائجها ظهور العديد من الظواهر الاجتماعية( الفقر+ الهجرة+الإجرام+الانحراف+الدعارة+الصراعات الاثنية...) والاختلالات البينونة في المدينة التي أصبحت مسرحا غنيا بالظواهر الاجتماعية المرضية، هذا بالإظافة الى مجموعة من العوامل الأخرى كنشأة السوسيولو جيا في جامعة شيكاغو والدور الذي لعبته حركة الإصلاح الاجتماعي والتحقيقات الاجتماعية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان لبعض العوامل الأخرى الفكرية والفلسفية دور حاسم في نشوء هذه المدرسة ولعل أهمها هو التأثير الذي أحدثته الفلسفة البركماتية في U.S.A خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن 20، والتأثير الذي أحدثه التيار التفاعلي الرمزي في رواد المدرسة.
ويبقى من الصعب التطرق الى كل انتاجات سوسيولوجيا مدرسة شيكاغو وحتى جزء منها نظرا لضخامتها من جهة ولضيق الوقت من جهة أخرى، لذلك سوف نقتصر على بعض أفكار رواد هذه المدرسة حول التحضر والهجرة وبعض الإشكالات الحضرية الأخرى، وذلك بشكل مقتضب.
أ- وليام اسحاق طوماس، وفلوريان زنانيكي ودراستهما "للفلاح البولوني":
لقد تطرق كل من طوماس وزنانيكي في دراستهما هاته المنشورة ما بين 1918- 1920، والتي يعتبرها علماء الاجتماع أول بحث يستحق نعت بحث سوسيولوجي، لوضعية الفلاحين البولونيين في موطنهم الأصلي وثم وضعيتهم بعد هجرتهم الى أمريكا، من أجل التعرف على نمط عيشهم في بولونيا ثم ما طرأ من تغيير على نمط عيشهم وأوضاعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بعد هجرتهم الى أمريكا، ومن خلال اعتمادهما على تقنيات جديدة في البحث السوسيولوجي كحكايا الحياة ودراسة الحالة (المنهج البيوغرافي)، استطاع كل منهما تحليل وفهم كل الإشكالات المرتبطة بهجرة الفلاح البولوني، ولعل أهم مفهوم تم الخلوص اليه في هذه الدراسة هو مفهوم سوء التنظيم الاجتماعي واعادة التنظيم الذي يعني ضعف وتراجع تأثير القواعد الاجتماعية بين أفراد الجماعة، واعتبر أن الهجرة هي ظاهرة ناتجة بالأساس عن سوء التنظيم الاجتماعي والتفكيك الذي يعرفه المجتمع، كما أن الهجرة تصبح مصدرا للتفكيك الاجتماعي بالوسط الحضري، وذلك نتيجة للارتفاع السريع للكثافة السكانية...وقد لاحظ طوماس أن هجرة الفلاحين البولونيين الى أمريكا تتسبب في خلق نوع من سوء التنظيم وحدوث صراعات داخل الأسرة وارتفاع نسبة الجرائم... غير أن هذه الحالة من سوء التنظيم لا تستمر الى ما لا نهاية، فكما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الأنومي Lanomie عند دوركايم، فإن سوء التنظيم هو حالة مؤقتة بحيث سرعان ما تسعى جماعة المهاجرين الى تنظيم نفسها Réorganisation من خلال إنتاج قواعد وقيم جديدة تتلاءم مع واقعها الجديد حتى يستطيع المهاجر الاندماج في المجتمع الأمريكي.
ب- روبرت بارك والمقاربة الايكولوجية للتحضر والهجرة:
يعتبر بارك الأب الروحي لمدرسة شيكاغو بدون منازع، نظرا لضخامة الانتاجات السوسيولوجية التي ألفها حول مجموعة من الظواهر الحضرية كالهجرة والتفكك العائلي والسكان المشردون وعصابات الأحداث الجانحين و الغيتو والانتحار ومناطق السكن الفقيرة والغنية ومناطق الجنوح القوي وفتيات طاكسي، والعائلة الجنزية وتنظيم الدعارة والسود والصراعات الاثنية...كل هذه الظواهر الاجتماعية التي صاحبت التوسع الحضري الذي عرفته مدينة شيكاغو بفعل تعدد الأقليات الاثنية قد تطرق لها بارك بالدراسة والتحليل وفق منظور ايكولوجي ينطلق في تفسيره لها من التفاعل الحاصل بين المجال الحضري بكل ما يزخر به من خصوصيات وأنماط وقيم وبين الإنسان وما يمتلكه من مواقف و تمثلات.
وانطلاقا من الايكولوجيا الإنسانية اعتبر بارك أن دراسة الإنسان ينبغي أن تتم على أساس دراسة التفاعلات بينه وبين الوسط الطبيعي والجغرافي الذي ينتمي اليه، معتبرا بذلك المدينة من هذا المنظور الايكولوجي مجالا غنيا بالتفاعلات والديناميات الاجتماعية. أو بلغة بارك نفسها أن المدينة هي مختبر اجتماعي لتحليل وفهم كل الظواهر الحضرية.
وفي إطار حديث بارك على ظاهرة الهجرة الإنسانية والتحضر، اعتبر أن هجرة الفلاح الى المدينة هي ظاهرة تاريخية وعملية دائمة لا يمكنها أن تتوقف، ولكنها تتحول مشكلة اجتماعية عندما يتم السعي الى حلها عن طريق الإدماج الحضري أو ما يسميه بارك بعمليه الانصهار، لأن الثقافة التي يحملها المهاجر القروي التي يتميز بهيمنة الأعراف والتقاليد الجامدة عليها، تختلف عن الثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والرأي العام والقانون الوضعي.
وهكذا يمكن القول بأن أهم ما ميز بارك في دراسته لكل الظاهر الاجتماعية الحضرية هو هيمنة البعد الايكولوجي عليه في تناوله لهذه الظواهر معتبرا المدينة مجالا خصبا ومختبر ا اجتماعيا لدراستها، وقد قال بارك مخاطبا طلابه " ارجعوا كل علاقة اجتماعية الى علاقة مجالية وعندئذ يمكنكم أن تطبقوا على العلاقات بين الناس المنطق الأساسي للعلوم الفيزيائية.
باالإظافة إلى توماس وزنانيكي وبارك نجد هناك مجموعة من علماء الاجتماع الذين اهتموا بالظاهرة الحضرية، بشكل عميق كبرجيس الذي اهتم بدراسة النم الحضري وأثره على الحياة الاجتماعية ، ولويس وورت الذي حاول صياغة مقاربة ثقافية لظاهرة التحضر من خلال تعريفه السوسيولوجي الشامل للتحضر باعتباره نمط في العيش وتوسع في المجال الحضري، ونجد كذلك روبرت ردفيد الذي قارب الظاهرة الحضرية من منظور أنتروبولوجي منتهيا الى صياغة نظرية المتصل الريفي الحضري"continuim rural- urbain " التي حاول من خلالها البرهنة على أنه من الصعب في زمننا الحاضر الحديث عن وجود مجتمع حضري خالص ومجتمع قروي خالص.
الى هنا يمكن القول، أن مدرسة شيكاغو تبقى محطة لامعة في تاريخ السوسيولوجية، نظرا للنقلة النوعية التي أحدثتها في الأسس الابستيمولوجية والميتودولوجية لعلم الاجتماع، ونظرا لاهتماماتها المكثفة للظاهرة الحضرية وفق منظور متعدد الأبعاد ينطلق من العلاقة التفاعلية بين المجال الحضري والثقافة في اطار مقاربة ايكولوجية إنسانية.
ورغم كل هذا فان مدرسة شيكاغو لم تسلم من الانتقادات التي وجهت لها، وقد ركزت هذه الانتقادات على ثلاث نقط أساسية: بداية من النموذج الايكولوجي الذي اعتبر بعيدا عن مقاربة الظاهرة الحضرية والسلوك الاجتماعي للفرد، ثم انتقادات أخرى ركزت على الجانب المنهجي ، من خلال اعتبار التقنيات الامبريقية التي استعملها رواد المدرسة ، ناقصة وبالتالي لايمكن أن تؤدي الى التوصل الى نتائج علمية دقيقة. بقدر ما تؤدي الى استنتاجات وتعميمات امبريقية متناقضة وعقيمة. والنوع الثالث من الانتقادات نجده يركز على مسألة العلاقة بين الثقافة والمجال إلي تعتبر مسألة إيديولوجية ... كل هذه الانتقادات نجدها بالأساس موجهة إلى وورت من طرف امانويل كاستيلزالذي خصص فصل من كتابه " المسألة الحضرية " أسماه "أسطورة الثقافة الحضرية "، لتفنيد مفهوم "الثقافة الحضرية " و مفهوم التحضر عند وورت، انطلاقا من نتائج أبحاث ميدانية تفند كلها – حسب كاستيلز- العديد من نتائج واستنتاجات ومفاهيم وورث وغيره من رواد مدرسة شيكاغو.
3- إشكالية التحضر في العالم الثالث:
إن إشكالية التحضر في دول العالم الثالث، وما يرتبط بها من إشكالات اقتصادية واجتماعية وثقافية وادراية وسياسية ومجالية... أضحت من بين الإشكالات الكبرى التي تواجه تطبيق الخطط والاستراتيجيات التنموية في هذه الدول.
غير أن خصوصية التحضر بهذه الدول، تجعل من مسألة التنمية الحضرية بل التنمية في معناها العام أمر صعب التحقق نظرا لجسامة الإشكالات التي أضحت تعاني منها المدينة كفضاء وإطار ترابي ومجالي وببنية مورفولوجية مركبة تجمع بين أكبر من خاصية من خصائص التحضر، بحيث لم تتضح بعد وبشكل جلي مميزات وخصائص التحضر والحضرية في مدن دول التبعية، التي تتشكل من فسيفساء من الأنماط الاجتماعية والاقتصادية تجعلك من الصعب عليك التمييز بين ما هو ريفي- قروي وبين ماهو حضري- مديني.
وهذا التداخل راجع بالأساس المدينة أو ظاهرة التحضر في هذه الدول لم تنمو بشكل طبيعي وفق سيرورة تاريخية تخول لها التطور والتقدم بشكل طبيعي، إذ غالبا ما ارتبط تشكلها الحديث بالتوسع الإمبريالي الذي تعرضت له خلال نهاية القرن 19 وبداية القر20، وبتزايد النمو الديمغرافي وارتفاع حركات الهجرة القروية بفعل الكوارث الاقتصادية، والطبيعية التي كانت تتعرض لها البادية وتفكك بنياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أكثر مما ارتبط بتراكمات وسيرورة تقدمية طبيعية عكس الدول الغربية التي كانت فيها الظاهرة الحضرية استجابة للتحولات والتغيرات الاجتماعية والثورات الصناعية والثقافية التي عرفتها أوربا في مسيرتها التاريخية الحديثة. " إن التحضر في الدول الصناعية كانت نتيجة حتمية لعملية تاريخية ذاتية كاستجابة للثورة الصناعية وما صحبها من تحولات عميقة في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. في حين أن التحضر في البلدان المتخل
0 التعليقات :
إرسال تعليق